ما مستقبل مذكرة اعتقال الجنائية الدولية ضد نتنياهو؟ Bookmark article

نتنياهو (يسار) وغالانت (يمين) يجلسان خلال مؤتمر صحفي في تل أبيب عام 2023
Getty Images
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024

رفضت المحكمة الجنائية الدولية مؤخراً الاستئناف الذي تقدمت به إسرائيل لإلغاء مذكرتي الاعتقال الصادرتين بحق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.

القرار جاء على خلفية تطورات إقليمية أبرزها إعلان وقف إطلاق النار في غزة وفق خطة السلام الأخيرة للرئيس ترامب، وأثار تساؤلات حول ما إذا كانت تلك التطورات ستؤدي إلى وقف الملاحقات القضائية للمسؤولَين الإسرائيليَين، كما أشعل مرة أخرى الجدل حول ما إذا كان للمذكرتين تبعات تذكر.

فما الذي يعنيه قرار رفض الاستئناف؟ وكيف تنعكس العقوبات التي فرضتها واشنطن على المحكمة على سير القضية؟ وما احتماليات تنفيذ مذكرتي الاعتقال؟

قبل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، ربما من المفيد أولاً استعراض بعض المعلومات المتعلقة بالمحكمة وظروف صدور المذكرتين:

المحكمة

يحق لأي من الدول الأعضاء في النظام التأسيسي للمحكمة، وكذلك لمكتب الادعاء التابع لها ولمجلس الأمن الدولي، إحالة قضايا إليها للتحقيق فيها. وللمحكمة صلاحية الفصل في أربعة أنواع من الجرائم: الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان.

تنظر المحكمة فقط في الجرائم التي ارتكبت على أرض الدول الأعضاء، أو ارتكبها مواطنون تابعون لتلك الدول، أو تلك التي يحيلها مجلس الأمن الدولي إذا كان هناك أعمال عنف تهدد السلام والأمن الدوليين.

مقر المحكمة في مدينة لاهاي الهولندية ويبلغ عدد أعضائها حالياً 125 دولة، وتعتمد على تعاون أعضائها لتنفيذ أحكامها، إذ ليس هناك قوة شرطة تابعة لها.

خلفية مذكرتي الاعتقال

في عام 2015، قبلت المحكمة الجنائية الدولية "دولة فلسطين" في عضويتها، ثم تقدمت السلطة الفلسطينية بطلب للتحقيق في جرائم إسرائيلية مزعومة في الأراضي الفلسطينية، وبدأت المحكمة تحقيقها الرسمي في عام 2021.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، انضمت دول أخرى بينها جنوب أفريقيا وبنغلاديش وبوليفيا إلى القضية، وأكد ممثل الادعاء بالمحكمة أن تحقيقاته السابقة مستمرة، وأنها ستتوسع لتشمل تصاعد الأعمال العدائية وأعمال العنف منذ هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وفضلاً عن مذكرة اعتقال بحق محمد الضيف القائد العام لكتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، الذي أكدت الحركة مقتله في بداية العام الجاري، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي. كان المدعي العام بالمحكمة يسعى أيضاً لإصدار مذكرتي اعتقال بحق مسؤولَين آخرين بحماس هما إسماعيل هنية ويحيى السنوار، لكنهما قتلا قبل أن يحدث ذلك - فقد اغتيل هنية في طهران في يوليو/تموز 2024 وأعلنت إسرائيل لاحقاً مسؤوليتها عن اغتياله، في حين أكدت مقتل السنوار في غزة في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.

المحكمة قالت إنها وجدت أسباباً معقولة للاعتقاد بأن كلاً منهما "يتحمل المسؤولية الجنائية عن الجرائم الآتي ذكرها كمشاركين لارتكابهم الأفعال بالاشتراك مع آخرين: جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد والأفعال اللاإنسانية الأخرى"، وفق ما أعلنته المحكمة.

الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو وغالانت رفضوا الاتهمات، ووصف مكتب نتنياهو إصدار المذكرتين بأنه "قرار معاد للسامية"، وقال إن إسرائيل لا تعترف بسلطة المحكمة ولا بشرعية المذكرتين، وإنها سوف تستأنفهما.

ورغم رفض المحكمة استئناف إسرائيل للمذكرتين، فهي لا تزال تنظر في الطعن في اختصاص المحكمة الذي تقدمت به.

شعار المحكمة أمام مبناها في لاهاي
Getty Images
يوجد مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي

عقوبات أمريكية

سارعت الولايات المتحدة بانتقاد مذكرتي الاعتقال فور صدورهما. الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن وصف الخطوة بأنها "مشينة"، مشدداً على أنه لا يمكن المساواة بين حماس وإسرائيل، وأن بلاده ستقف "دائماً مع إسرائيل ضد التهديدات التي تواجه أمنها".

ومنذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام الجاري، فرضت واشنطن عقوبات على ستة قضاة وثلاثة من ممثلي الادعاء التابعين للمحكمة. وزير الخارجية ماركو روبيو قال في أغسطس/آب المنصرم إن المحكمة "تشكل خطراً على الأمن القومي" وتُعتبر "أداةً لشن حرب قانونية" على الولايات المتحدة وإسرائيل.

المحكمة بدورها وصفت أحدث موجة من العقوبات الأمريكية بأنها "هجوم صارخ" على استقلالها وحيادها، وبأنها "تعتبر إهانة للنظام العالمي القائم على القواعد، وقبل كل شيء، لملايين الضحايا الأبرياء عبر أنحاء العالم".

فهل تؤثر العقوبات الأمريكية على عمل المحكمة أو سير القضية؟

يقول البروفيسور شاباس، أستاذ القانون بجامعة ميدلسيكس البريطانية، لبي بي س عربي إن "العقوبات تتسبب في مشقّات هائلة لمن توقَّع عليهم. بالنسبة إلى غالبية الأشخاص، حظر السفر إلى الولايات المتحدة ليس نتيجة فظيعة، بيد أن الإجراءات المتعلقة بالمعاملات البنكية وبطاقات الائتمان وما شابه تتسبب في مشكلات كبيرة لحياة الأشخاص. هناك دائماً طرق للالتفاف عليها، وهؤلاء المتأثرون بها بلا شك بحثوا في مختلف الخيارات".

يضيف شاباس أن "القضاة أقسموا أن يكونوا مستقلين ومحايدين، ولا شيء فعلته الولايات المتحدة سيغير ذلك. لن يكون للإجراءات الأمريكية أثر على سير القضية".

ماركو روبيو، وزير الأمريكي
Getty Images
وصف وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو المحكمة الجنائية الدولية بأنها "أداة لشن حرب قانونية" على أمريكا وإسرائيل

هل تؤثر خطة ترامب الأخيرة على القضية؟

تنص خطة الرئيس ترامب للسلام في غزة على تولي لجنة تكنوقراط انتقالية مؤقتة شؤون إدارة القطاع اليومية وإعادة إعماره، إلى أن تكمل السلطة الفلسطينية البرنامج الإصلاحي الذي وضعت الخطوط العريضة له مقترحات سابقة مثل خطة ترامب للسلام 2020، وحينها يكون بإمكانها تولي الإشراف على غزة. ومن ضمن الشروط التي تضعها خطة ترامب 2020 وجوب وقف منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية "كل الإجراءات قيد النظر، ضد إسرائيل والولايات المتحدة، أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية وكافة المحاكم الأخرى".

وأثناء الزيارة التي قام بها نتنياهو لواشنطن أواخر الشهر الحالي، شدد رئيس الوزراء الإسرائيلي على تأييده لموقف ترامب بشأن "عدم لعب السلطة الفلسطينية أي دور في غزة على الإطلاق" قبل أن تمر "بتحول جذري وحقيقي"، بما في ذلك "إنهاء الحرب القانونية على إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية".

الولايات المتحدة فرضت عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية في يوليو/ تموز الماضي. من ضمن الأسباب التي ساقتها الخارجية الأمريكية اتخاذ إجراءات "لتدويل" الصراع مع إسرائيل من خلال المحكمة الجنائية أو محكمة العدل.

لم تصدر أي إشارة عن السلطة الفلسطينية بشأن إمكانية وقف الإجراءات التي اتخذتها ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية. ويقول أستاذ القانون الدولي البروفيسور شاباس إنه حتى لو انسحبت السلطة من عضوية المحكمة، فلن يكون لذلك أي تأثير على سير القضية:

"باستطاعة فلسطين الانسحاب من نظام روما التأسيسي، وسيستغرق هذا الأمر عاماً ليصبح ساري المفعول، وسيؤدي إلى وقف إصدار مذكرات اعتقال تتعلق بأي فعل أو تقصير يحدث في المستقبل، لكن لن يكون لها أي تأثير على الجرائم التي ارتكبت عندما كانت عضواً في النظام. بالطبع هذا شيء مستبعد جداً على أية حال".

نتنياهو ملقياً كلمة أثناء مؤتمر صحفي عقده مع ترامب في البيت الأبيض الشهر الماضي.
Getty Images

ردود فعل متفاوتة

اعتبر كثير من المحللين مذكرتي الاعتقال سابقة في تاريخ الممارسات القضائية الدولية، إذ لم يسبق أن أصدرت هيئة قضائية جنائية دولية قرارات على هذا المستوى ضد دولة غربية أو حليف رئيسي لدولة غربية.

كانت المحكمة قد تعرضت في الماضي لانتقادات، ولا سيما من قبل الاتحاد الأفريقي الذي اتهمها أحد مسؤوليه باستهداف أفريقيا والأفارقة. لكنها تنفي أي تحيز، وتقول إن بعض القضايا – مثل قضية جيش الرب للمقاومة في أوغندا – أحالتها الدولة المتضررة، وبعضها أحالته الأمم المتحدة.

قرارات المحكمة الجنائية الدولية مثل مذكرات الاعتقال ملزمة قانونياً لأعضائها، لكن كما أشرنا آنفاً، المحكمة تعتمد على تعاون الدول الأعضاء في التنفيذ، لأنه ليس لديها قوة شرطة تنفذ الاعتقال.

في أعقاب صدور مذكرتي الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت، تفاوتت ردود فعل الدول الأعضاء ما بين الإشارة إلى الالتزام أو التنفيذ مثل بلجيكا وهولندا وأيرلندا وسويسرا وكندا التي قالت إنها ستعتقل نتنياهو إذا زارها، وبين اتخاذ مواقف غير مؤكدة أو حذرة مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، وبين تحدي التنفيذ أو انتقاد المذكرتين مثل المجر التي استقبلت نتنياهو في أبريل/نيسان الماضي وانسحبت من المحكمة، والأرجنتين التي قالت إنها تعارض المذكرتين بشدة.

ما احتمالات التنفيذ؟

يقول البروفيسور شاباس: " كانت هناك بيانات غامضة صادرة عن بعض البلدان الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية توحي بأنها لن تلقي القبض على نتنياهو إذا سافر إليها. على سبيل المثال، المستشار الألماني ألمح إلى ذلك. لكن في دول مثل ألمانيا، التي تعمل على أساس سيادة القانون، لا يتحكم رئيس الدولة في السلطة القضائية... أظن أنه في غالبية الدول الأعضاء في نظام روما التأسيسي، سوف يأخذ القانون مجراه إذا ما وطأت قدما نتنياهو أراضي تلك الدول، وسوف يُعتقل ويرحّل إلى لاهاي".

تحدث الكثير من المحللين عن تداعيات سياسية ودبلوماسية محتملة للمذكرتين مثل تقييد حركة سفر المسؤولَين الإسرائيلييَن، وتقييد بيع الدول الأعضاء في المحكمة أسلحة لإسرائيل، وزيادة عزلة إسرائيل دولياً، وتقليص نطاق الحرب في غزة وانخفاض شعبية نتنياهو في إسرائيل.

ورغم الرمزية القوية لمذكرتي الاعتقال، فإنهما لم تفضيا إلى أي تداعيات دراماتيكية ملموسة، ربما باستثناء تقييد حركة سفر رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي اضطر، وفق صحف إسرائيلية وغربية، إلى اتخاذ طريق أطول من اللازم أثناء رحلته إلى نيويورك الشهر الماضي لتفادي المجالات الجوية لبعض البلدان الأوروبية حتى لا تكون تلك البلدان مضطرة لتنفيذ مذكرة الاعتقال. ورغم أن بعض الدول فرضت حظراً كلياً أو جزئياً على تصدير الأسلحة لإسرائيل، لكن الخطوة لم يكن لها تأثير يذكر في ضوء مواصلة الولايات المتحدة دعمها العسكري لها.

يقول البروفيسور فواز جرجس أستاذ العلاقات الدولية بجامعة لندن لبي بي سي عربي إنه على الرغم من الأهمية "المعنوية والقانونية" لقرارات المحاكم الدولية، "لا أعتقد أننا سوف نشهد أي شكل من أشكال تفعيل هذه القرارات ضد إسرائيل على المدى القصير أو المنظور. لكنها من الممكن أن تأتي بثمارها في المستقبل وتؤدي إلى عقوبات قانونية" ضد قيادات إسرائيلية.

وعما إذا كانت هناك إجراءات أخرى تستطيع أن تلجأ إليها الحكومة الإسرائيلية لإلغاء المذكرتين، يقول شاباس إنه "من الصعب دائماً توقع المبادرات التي قد يتوصل إليها المحامون الماهرون. شخصياً لا أعتقد أن هناك خيارات أخرى أمام إسرائيل سوى انتظار نتيجة طعنها في اختصاص المحكمة. لكني لن أستغرب إذا ما فكرت إسرائيل في شيء جديد."

قرار المحكمة الجنائية الإبقاء على مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت يعزز سلطتها القضائية، لكنه في الوقت ذاته يبرز الفجوة بين الأحكام القضائية والواقع السياسي. وبينما تعكس هذه القضية تنامي جرأة المؤسسات القضائية الدولية، فإنها تسلط الضوء كذلك على القيود التي تواجهها من قبل الدول القوية.

*.*.*