مسكن من كل خمسة مغلق: لماذا تفشل سياسة السكن في تونس؟

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/694db14ad218b9.14573455_oqkhpinfjglme.jpg width=100 align=left border=0>


حاتم بولبيار

تواجه تونس اليوم مفارقة سكنية صارخة: ففي الوقت الذي تتفاقم فيه صعوبات النفاذ إلى السكن، سواء عبر الشراء أو الكراء، تكشف المعطيات الرسمية عن وجود رصيد ضخم من المساكن غير المستغلة. إذ يُقدَّر عدد المساكن في تونس بحوالي 4,2 مليون مسكن، من بينها قرابة 825 ألف مسكن شاغر، أي ما يعادل مسكناً واحداً من كل خمسة مساكن. هذا الرقم لا يعبّر فقط عن اختلال في السوق العقارية، بل يكشف أزمة أعمق في السياسات العمومية.






السكن الشاغر: واقع وطني بتفاوتات جهوية حادّة

لا يمكن التعامل مع السكن الشاغر في تونس كظاهرة متجانسة. فالأرقام تكشف تفاوتات جهوية كبيرة.

إذ تسجّل ولاية تطاوين أعلى نسبة شغور، تصل إلى 38% من مجموع المساكن، وهو مستوى يعكس بالأساس الهجرة، وضعف الفرص الاقتصادية.

وفي ولايات مثل مدنين والمهدية والمنستير، يقترب الوضع من مسكن شاغر واحد من كل ثلاثة (1/3). هنا تتداخل أسباب الشغور بين الهجرة، وانتشار المساكن الثانوية، وضعف الاستقرار الاقتصادي، لكن النتيجة واحدة: رصيد عقاري واسع خارج الاستغلال الفعلي.

في المقابل، تحتل ولايات تونس الكبرى أسفل الترتيب، حيث لا تتجاوز نسب المساكن الشاغرة بين 9% و12% فقط. ورغم ذلك، تبقى هذه المناطق الأكثر تضرّراً من أزمة السكن، بسبب تركيز الطلب، وارتفاع الأسعار، وصعوبة النفاذ، خاصّة لدى الشباب والفئات المتوسطة.

هذه المفارقة الجهوية تقود إلى خلاصة أساسية: المشكل ليس في عدد المساكن، بل في توزيعها، وموقعها، وكيفية إدماجها في السوق.



حدود المقاربة التقليدية: البناء ليس الحل

لطالما ارتكزت السياسات السكنية في تونس على منطق التوسّع العمراني والبناء الجديد باعتباره الحل الرئيسي لأزمة السكن. غير أنّ واقع السكن الشاغر يضع هذه المقاربة موضع تساؤل جوهري. فكيف يمكن تبرير مواصلة البناء، في ظل وجود مئات الآلاف من المساكن غير المستغلة؟

إن الاستمرار في هذا النهج لا يؤدي فقط إلى استنزاف الأراضي والموارد العمومية، بل يكرّس اختلالات مجالية جديدة، ويغذّي المضاربة والاحتكار دون أن يحلّ فعلياً معضلة النفاذ إلى السكن. فالأزمة، في جوهرها، ليست أزمة سكن، بل أزمة نفاذ إلى رصيد عقاري جاهز.


إدماج المساكن الشاغرة في السوق: خيار حيوي

توسيع العرض السكني لا يمرّ بالضرورة عبر البناء، بل يبدأ قبل كل شيء بـ تفعيل الرصيد القائم. ويعني ذلك إدخال المساكن الشاغرة فعلياً إلى السوق، سواء عبر الكراء أو البيع، بدل تركها مجمّدة خارج الدورة الاقتصادية.

غير أنّ هذا التفعيل لا يمكن أن يُترك لمنطق التشجيع وحده. فالمعطيات الحالية تؤكّد أن الدولة تعرف الواقع بدقّة: هناك رصيد عقاري كبير، والبلاد في حاجة ماسّة إليه، لكنه غير مستغل. وبالتالي، يصبح التدخّل العمومي الإلزامي خياراً مشروعاً، عبر الحدّ من تخزين المساكن دون استغلال، وكبح المضاربة، وإعادة الاعتبار للسكن كوظيفة اجتماعية لا كأداة احتكار.


السكن والديموغرافيا: أزمة واحدة بأبعاد متعددة

لا يمكن فصل أزمة السكن عن التحوّلات الديموغرافية العميقة التي تعرفها البلاد. فقد تراجع عدد الزيجات إلى النصف تقريباً بين سنتي 2014 و2025 (من حوالي 110 آلاف زواج إلى نحو 57 ألف زواج)، وهو تراجع يبيّن بوضوح أنّ غياب سكن ميسّر لم يعد مجرّد إشكال اجتماعي، بل عاملاً محدِّداً لمسار ديموغرافي كامل.

فلا استئناف ديموغرافي من دون ارتفاع في عدد الولادات، ولا ولادات من دون زواج، ولا زواج من دون نفاذ فعلي للشباب إلى سكن لائق وبأسعار معقولة.


السكن، الديموغرافيا، ومسؤولية الدولة

إن وجود مسكن شاغر من كل خمسة مساكن في تونس ليس خللاً تقنياً ولا صدفة إحصائية، بل نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية. فالدولة التي تعرف بدقّة حجم الرصيد العقاري غير المستغل، وتعي في الوقت نفسه خطورة التراجع الديموغرافي، لا يمكنها الاستمرار في التعامل مع السكن كملف ثانوي أو كمسألة اجتماعية معزولة.

أزمة السكن اليوم هي اختبار لقدرة الدولة على الفعل، وعلى فرض تفعيل المساكن الشاغرة لكسر منطق الاحتكار والمضاربة، وإعادة إدخال السكن في دوره الاجتماعي والاقتصادي.

السكن ليس امتيازاً، بل شرطاً للاستقرار، للزواج، وللاستمرار الديموغرافي. ومن دون سياسة عمومية تعترف بهذه السلسلة السببية وتتعامل معها بصرامة، سيبقى الحديث عن الاستئناف الديموغرافي مجرّد شعار، وستبقى المساكن مغلقة، بينما يُغلق المستقبل أمام أجيال كاملة.

   تابعونا على ڤوڤل للأخبار تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments

0 de 0 commentaires pour l'article 320875

babnet